وماذا كان يمكن أن يحصل لو أن الاستفتاء انتهى بنصر
لخمسمائة صوت لأنصار خطة فك الارتباط؟ هل كان مهندس أوسلو سوف يحتج على
العملية بغض النظر؟ وهل كان سيرفض دعوة آرييل شارون للانضمام إلى
الحكومة؟
إن موقف حزب العمل بقيادة شمعون بيريز فيما
يتعلق بخطة فك الارتباط من طرف واحد يظهر أن قيادة الحزب لم تفهم بعد الانفصال
عن شارون. فحزب المعارضة الرئيسي يزحف مغمض العينين خلف استراتيجية
تتعارض بشكل مباشر مع اتفاق أوسلو، الذي يعتبر الإنجاز الأكثر أهمية الذي حققه
معسكر السلام منذ بداية الاحتلال عام 1967.
فقد تنازل حزب العمل، وهو يلهث وراء دعم خطة شارون، عن
مبدأي اتفاقية أوسلو: أولاً، ليس هدف أوسلو إخلاء المستوطنات وإنما اتفاقية
سلام، وثانياً، حسب اتفاقية أوسلو فإنه يجب العمل على التوصل إلى كافة تفاصيل
اتفاقية السلام، وأن سبيل التوصل إليها هو من خلال المفاوضات فقط ودون اتخاذ
خطوات أحادية الجانب بأي شكل من الأشكال.
لقد امتد اليأس من تحقيق السلام والحوار إلى حركة السلام
الآن، التي أخذت توزع ملصقات كتب عليها "إخلاء المستوطنات – خيار أبدي
نحو الحياة". من السهل على المرء أن يعتقد أن هذه الملصقات جاءت من مكتب
حملة أنشأه أنصار شارون قبيل استفتاء الليكود. فماذا حصل لشعار "الأرض
مقابل السلام"؟ وماذا عن "السلام أفضل من إسرائيل الكبرى"؟ أين
ملصقات "دولتان لشعبين"؟ اختفت جميعها. الملصقة القادمة التي
ستعدها حركة السلام الآن سوف تكون "السياج الفاصل خيار الأمن".
المستوطنون على حق. فإخلاء
7500 منهم لن يقرب من السلام، ولن
ينقذ أرواحاً كذلك. فحتى يفكر ياسر عرفات بإيقاف المتطرفين الدينيين عن
الاستمرار في الحرب، علينا إخلاء أكثر من مئة ألف مستوطن، وأن نستبدل المناطق
بأخرى داخل الخط الأخضر، وأن نتقاسم القدس ونتنازل عن السيادة على جبل الهيكل
(الحرم الشريف)، وأن نوافق على أن أي حل لمشكلة اللاجئين سوف يرتكز على قرار
الأمم المتحدة رقم 194.
حتى يتسنى تحقيق السلام في قلوب وضمائر الشعبين الإسرائيلي
والفلسطيني، يتوجب على قادة معسكر السلام أن يشكروا المستوطنين لتخليصهم من شرك
حكومة الوحدة الذي وضعه لهم شارون على شكل خطة انسحاب أحادي الجانب.
فقد قال شارون نفسه أن أفضل ما تم في امتداح خطته هو
الاحتجاجات التي أثارتها تلك الخطة في أوساط القيادة الفلسطينية. ولكن
السلام لا يمكن التفاوض عليه سوى مع القيادات.
ويشكل الفراغ الذي تركه فشل خطة فك الارتباط دعوة إلى محبي
السلام لإزالة خطة شارون عن جدول الأعمال بشكل نهائي، واتخاذ خيار السلام مرة
أخرى. ولكن ذلك لا يمكن القيام به من خلال رفع شعارات السلام وأناشيد
الاحتجاج في ميدان رابين. فالتعبير اللطيف عن أمر بغيض لا يعمل في صالح
اليمين فقط. والمناداة على الأرض "بالعودة إلى طاولة المفاوضات من أجل
السلام" و"بإعادة الحياة إلى عملية السلام" لن يساعد أبداً.
وفي مواجهة المبادرات الجزئية من طرف واحد، مثل فك الارتباط
عن غزة أو سياج الأمن التوسعي يستطيع محبو السلام تقديم خطط سلام كاملة مفصلة
ثنائية. يجب على خطط كهذه أن تضم قضايا الحدود والحلول لكافة القضايا
المختلف عليها بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس بين إسرائيل ونفسها.
خطة كلينتون ووثيقة جنيف ووثيقة نسيبة أيالون بانتظار قادة سياسيين لإخراجها من
غبار النسيان.
وقبل كل شيء يتوجب على قادة حزب العمل
وحمائم حزب الشينوي ونشطاء حركة السلام الآن، وحتى صقور إلياهاد أن
يعزلوا أنفسهم عن فكرة "لا يوجد شريك للسلام" التي أطلقها إيهود باراك ببراعة
منذ فشل قمة كامب ديفيد عام 2000
وفشله الذريع في انتخابات عام 2001.
يحق لأصحاب السياسة أن يتمتعوا بلقب القائد
فقط إذا كانوا على استعداد للسباحة عكس التيار. لقد مضى وقت كان فيه
شمعون بيريز من هذه الفصيلة، فحصل على جائزة نوبل للسلام لقاء معاناته.
وليلة السبت في ميدان رابين، سوف تسنح لنا الفرصة لنقول الوداع الأخير لشارون،
وأن نطالب الرئيس بوش بأن يعلن عام 2005
بالذات عام إنشاء الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967،
دولة تعيش بسلام، نعم بسلام مع إسرائيل.
ففي خضم هذا الحالة السائدة، أضحى استمرار
الوضع الراهن أمراً غير مقبول. ولكن بماذا سيُستبدل وضع كهذا؟ هناك ثلاثة
سيناريوات محتملة، جميعها قاتمة: فوضى كتلك التي أتاحت المجال لأسامة بن لادن
لأن يزدهر في أفغانستان ولانتشار إرهاب من الطراز الذي يلقي بظلاله اليوم على
السعودية والعراق، أو حرب أهلية من الطراز الذي روّع الجزائر والسودان، أو حكم
تسلطي جديد على غرار حكم صدام حسين يؤدي إلى الحرب والعزلة. لكن المشاركة
النشطة والشراكة الفعالة من قبل أعضاء المجتمع الدولي كفيلة بتغيير مسار
الأحداث باتجاه نتيجة إيجابية، تتمثل في مسار إصلاحي يؤدي إلى ترسيخ سيادة
القانون وتشجيع الحقوق الفردية وخلق مجتمعات مدنية نشطة ونشر الديموقراطية في
أرجاء الوطن العربي.
لكي يتسنى للإصلاح أن ينجح، وبعد عقود من
العزلة بسبب حكومات ديكتاتورية وأخرى متطرفة، يتوجب على العالم العربي تشجيع
المشاركة على مستوى القاعدة. إذ يجب أن يؤدي الإصلاح السياسي في العالم العربي
إلى تحرير الاقتصاديات العربية من مركزية الدولة وإلى إطلاق مشاريع جديدة تعود
بالفائدة على الأجيال القادمة. كما أن إيجاد إطار مفتوح للأحزاب السياسية وحرية
تكوينها والانضمام إليها عنصر حيوي أساسي. كذلك لا بد من توفير المجال للسلطة
الثالثة المتمثلة في الشباب وناشطي حقوق الإنسان والرواد من أصحاب الأعمال
والمرأة ليتسنى تحقيق إصلاح نابع من الداخل. ومن الأمور الحيوية أيضاً احترام
كافة القوى السياسية للدستور حتى يتم تجنب التطرف وإطلاق الحريات الثقافية
والسياسية.
لقد أصبح الدين مصدراً للنزاع السياسي بدلاً من
أن يكون مصدراً للروحانية والسلام. ولكن حتى يتسنى للعالم العربي التقدم
سلمياً، عليه أن يعمل على تحييد استخدام الدين في الحياة السياسية. وللتخلص من
مصدر عدم الاستقرار هذا، يجب الاعتراف بالحركات الإسلامية كجزء من الطيف
السياسي العربي، كما يتوجب على الإسلاميين أن يقبلوا صراحةً بحرية التعبير وحق
المشاركة لكافة الحركات السياسية. كما يجب الاعتراف بحقوق الأقليات واحترام
التنوع اللغوي والديني.
ستنجح بعض الدول العربية في الإصلاح بينما
ستتداعى أخرى. فالإصلاح عملية طويلة شائكة، وسوف يمر عقد من الزمان على الأقل
قبل أن يشعر العرب بالنتائج الإيجابية. وسوف يسطع مَثَل أو اثنان من أمثلة
النجاح الاقتصادي والسياسي في المنطقة. وقد تكون دول المنطقة الصغيرة شبه
الملكية هي الرهان الأفضل على تبني توجه تحرري، مثل البحرين والكويت وقطر وعمان
والإمارات العربية المتحدة، نظراً للتسامح الذي يتمتع به ملوكها وأمراؤها إلى
حد ما، والخطوات الإصلاحية التي اتخذت فيها حتى الآن. ومن ناحية أخرى فإن جدية
المؤسسة السعودية وتجاوبها المباشر ضد الهجمات الإرهابية الأخيرة يوفرالأمل بأن
الأسرة السعودية الحاكمة قد ترى في الإصلاح السبيل الوحيد.
وفي الأردن سوف يتطلب الإصلاح تغيير النسيج
الاجتماعي، بما في ذلك إعطاء حرية أكبر للفلسطينيين الأردنيين لتتسنى لهم
المشاركة السياسية والاقتصادية بفعالية. إلا أنه يتوجب على فلسطينيي الأردن أن
يتخذوا قراراً واعياً بقبول الأردن وطناً لهم. فثنائية الانتماء وعدم الانتماء
الناتجة عن قضية اللاجئين الفلسطينيين التي طال أمدها، لا تشجع على المشاركة
السياسية والاستقرار المستقبلي. لقد باشر ملك الأردن الشاب وفريقه مجموعة من
الإصلاحات التي تهدف إلى تشجيع الليبرالية السياسية في الأردن وتضعه على طريق
الإصلاح، لكن هنــــاك حاجة للمزيد من الخطوات الإصلاحية. وسيقرر النزاع
الفلسطيني-الإسرائيلي، بطريقة أو بأخرى، طبيعة الاستقرار أو عدمه في الأردن.
ورغم أن قيادة العالم العربي قد تحولت من مصر،
إلا هذه الدولة العربية الكبرى تبقى واحدة من اللاعبين المركزيين في المنطقة.
فلم تستطع دولة أخرى ملء الفراغ في زمن التنافس بين الدول العربية، ابتداء من
محطة الجزيرة في قطر وحتى الإصلاح الاقتصادي والفورة الاقتصادية في دبي. تستطيع
مصر استعادة دورها القيادي إذا لبست عباءة النهضة الثقافية والتحرر السياسي
والديموقراطية والإصلاح التعليمي والتطور الاقتصادي. ليس هناك في تاريخ مصر ما
يمنع حدوث ذلك، فقد أطيحت الملكية عام 1952 دون عنف، وخلال مائتين وخمسين عاماً
أثبتت مصر إنها قادرة على تبني سياسات إصلاحية واتخاذ قرارات جذرية. ومما لا شك
فيه أن انهيار أو تجدد العالم العربي مرهون جزئياً بما سيؤول إليه الإصلاح في
مصر.
في ما يتعلق بسورية، سلط سقوط صدام الأضواء على
مواضيع يفضل النظام السوري عدم طرحها. فدور سورية في لبنان، وحكم الحزب الواحد
وانتهاكات حقوق الإنسان هي أمثلة على تلك المواضيع. وحتى تتجنب سورية تهميشها
استراتيجياً، عليها أن تتخذ خطوات شجاعة، تتضمن التحرر السياسي والحد من سيطرة
الدولة على الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية. ويملك الرئيس السوري بشار
الأسد الإمكانيات والقدرة على إصلاح سورية، لكنه يواجه مصاعب ومعوقات عديدة،
بما فيها مؤسسة متخندقة خلف متاريسها.
ومن المبكر جداً تحديد ما إذا كان العراق قد
ضاع في خضم الحرب الأهلية والكراهية. فلم يكن مستبعداً، بعد سنوات من القهر
والاستبداد، أن تمر بفترة من الفوضى والعنف إلى أن تسيطر العقلانية ويسود
المنطق. فهناك أمور عدة تسير في مصلحة العراق: اهتمام الولايات المتحدة به،
طائفة شيعية لا ترغب بتكرار التجربة الإيرانية، وتقليد علماني، ومجتمع متنوع.
سوف تكون عملية إعادة بناء العراق عملية صعبة، لكنها ليست مستحيلة ونجاحها في
غاية الأهمية. والفشل لن يؤدي إلا إلى تقوية الراديكالية والتصعيد في السياسة
العربية القائمة اليوم. وستؤدي الحر ب الأهلية أو فشل الدولة في العراق إلى
دائرة جديدة من النزاع الإقليمي، ستجر إليها إيران وسورية وتركيا والمملكة
العربية السعودية والإسلاميين المتطرفين والأكراد وغيرهم. وهناك العديد من
الأنظمة المحيطة بالعراق تأمل بأن يتحول العراق إلى مستنقع للولايات المتحدة من
جهة، قد يكون تكراراً لما حصل في بيروت في ثمانينات القرن الماضي عندما سارعت
الولايات المتحدة بالخروج تحت ضغط إطلاق النار. ولكن، من جهة أخرى، يخشى العديد
من الأنظمة المحيطة من امتداد العنف إلى مجتمعاته.
الإصلاح النابع من الداخل في الشرق الأوسط يشكل
ثلثي القضية فقط. والحرب الفلسطينية الإسرائيلية المحتدمة في الضفة الغربية
وغزة مسألة مركزية في الجهود الإصلاحية. فالوضع في فلسطين كان وما زال يزكّي
نار الراديكالية في المنطقة في أوساط القوميين العرب والإسلاميين على حد سواء.
وطالما احتدمت المعركة، لن يعرف العالم العربي سوى الحرب والمجابهة، فلا يمكن
للإصلاح أن ينجح في خضم نزاع يشجع التطرف والحقد على جبهات أخرى. يجب على أنصار
الإصلاح في العالم العربي، عرباً كانوا أو أميركيين أو أوروبيين أن يتحركوا
لإنهاء الاحتلال وتطبيق سلام عادل.
إذا كان هناك من درس للتاريخ، فإن طريق التحول
إلى الديموقراطية والتطور الاقتصادي والسلام واحترام حقوق الإنسان مشوب بعمليات
معقدة وخيارات صعبة. العالم العربي اليوم يواجه فترة ما قبل الديموقراطية، وهي
فترة يمكنها توليد قوة الدفع اللازمة لإنجاز هذا التحول. وحدث كهذا لن يكون
نهاية فصل، وإنما سيبدأ فصلاً جديداً. وإذا كانت التجارب الأسبانية والإيطالية
في الديموقراطية تشكل دليلاً، فإن التغيير سوف يكون طويلاً وعنيفاً ومعقداً.
- محلل سياسي ورئيس الجامعة الأميركية
في الكويت.
والمقال جزء من سلسلة مقالات عن المبادرة
الأميركية للإصلاح، "الشرق الأوسط الكبير"، تُنشر بالتعاون مع خدمة
Ground Common
الإخبارية.
- النص
الأصلي باللغة الإنجليزية وقد قامت خدمة Common Ground
الإخبارية بترجمته إلى العربية.